معاً نناضل من أجل الحرية

معاً نناضل من أجل الحرية
سمسم حيفضل حر

مقالة من خلف الاسوار
صحافة الخلاف والاختلاف رسالة إلى كل كاتب أو صحفي
م / أسامة محمد سليمان 2007-07-21
سمحت لي الظروف بتصفح جرائد يومية، إحداها قومية وأخرى أسبوعية على مدى الثلاثة أشهر الماضية، أحسست بعدها بالأسى الشديد على حال كتَّابنا ومستقبل الصحافة في بلدنا، لكونها مهنة لها تقاليدها ومعاييرها كما درسناها؛ باعتبارها السلطة الرابعة في أي نظام ديمقراطي.
وجوهر الأسى في مضمون المحتوى التحليلي للأحداث التي يدوِّنها الكتَّاب، ويصفون رؤيتهم النقدية بمستوى يهبط لدرجة أسميها "الخلل والإخلال" في جميع مكونات الهيئة الشكلية والمضمون لأي صحيفة بما فيها العناوين الرئيسية والفرعية والمساحات الإعلانية، وقد أجد بعض العذر للكاتب المبتدئ أو حَسَن النية، أما الخلل المتعمَّد فهو لبُّ ما أكتب.

إن ما نقرأه على صفحات الجرائد هو نوعٌ من أعمال التحلل والفوضى داخل المجتمع، في نسيجة وقواه الوطنية وقضاياه القومية، تخلط فيه الأوراق كخلط الحابل بالنابل، فتهضم الحقوق، وتمحو معالم الحقيقة، ولمصلحة من؟! أترك إجابتها للقارئ.

وباختيار طيف معيَّن له وزنه السياسي والاجتماعي، كجماعة الإخوان المسلمين في المجتمع المصري، والتي شغلت مساحاتٍ تحليليةً وعناوينَ رئيسيةً ليست بالقليلة، سواءٌ في أخبارها أو نقد فكرهم، والتعرُّض لعلاقتهم بالنظام الحاكم.. أجد بين الكتَّاب من لا هَمَّ له سوى الزجِّ باسم الجماعة في أي شيء ولو حادثة "هيفاء وهبي" أو تديُّن "أبو تريكة" والهدف معروف في زيادة توزيع الجريدة وجذب القراء.

فالقومية مثلاً أفردت صفحةً كاملةً أسبوعيًّا، هذا غير الدور الرئيسي الذي يقوم به رئيس تحريرها؛ خدمةً للنظام وترضيةً للجهاز الأمني مقابل أهداف شخصية خاصة به!! وآخرون سخَّروا أعمدتهم ومقالاتهم باتجاهٍ معادٍ لفكر وقادة الجماعة "عمال على بطال"، ودون مراعاة لأبسط قواعد حقوق الإنسان، وتجاوزًا لميثاق الشرف الصحفي، ولا أنسى طبعًا شرفاء المهنة، الذين رعَوا أدب النقد، فأوردوا الخبر خبرًا دون بتر أو تحوير، واختلفوا مع الجماعة بما يعني مفهوم الاختلاف المحمود.

إن ما أريده تحديدًا الوقوف على مفهوم الاختلاف والبعد عن الخلاف؛ حتى لا نَقَع فريسةً "للخلل والإخلال"، فنُصيب القارئ بإحباط وبلبلة يفقد معها مصداقية الكاتب والجريدة معًا.

فإذا كان العلماء عرفوا الخلاف بأنه "التضاد في الفهم الذي يُبقي صاحب الرأي على رأيه بلا دليل" أي أنه تنازع من أجل كراهية وتسفيه الطرف الآخر، فإن الاختلاف هو "حوارٌ بين المتعارضين لإحقاق الحق أو إبطال الباطل، ويكون بدليل وعلى بينة"، بمعنى آخر "عدم الاتفاق على أمر معلوم لم تتفق عليه الآراء".

ويتحول الاختلاف الذي أريده إلى خلاف مذموم بأمرين أحدهما: التأويل الخطأ للأدلة والأحداث وقطعها عن السياق عنوةً، وثانيهما الاختلاف في فهم ما جاء من جملة الخبر أو الحدث وربما بحسن نية، فيقود للخلاف إذا كان الاختلاف تعصبًا أعمى، أو لتحقيق مصلحة ما، دون اعتبار لدليل أو برهان، والتثبت من الخبر نفسه.

فإذا كان الاختلاف سنةً كونيةً في التبديل والتغيير، فإن الخلاف شذوذٌ ضد الإجماع وما يتفق عليه الرأي العام، فهو الخوض في الممنوع دون مراعاة لآداب أو محرمات.

وللمزيد يذكر العلماء إذا كان الاختلاف المحمود اختلافًا تجميعيًّا، فهذا يعين الاجتهاد العقلي الجاد، والذي يبحث الحدث من جميع جوانبه ويتفحَّص روايته المختلفة، ويوازن بين الأدلة ودلالتها، حتى يخرج برأي يزيد القارئ قربًا من تفهُّم الحدث محل النظر، وتبصرًا بأبعاد الموقف المرتبط بالحدث أو القضية دون إملاء أو فرض رأي على الآخر برؤية أحادية لا يجوز خلافها؛ مما يرفع من شأن الكاتب ويحقِّق الثلاثية الإعلامية الذهبية في تناول الخبر "الدقة- الأمانة- الموضوعية".

أما الخلاف المذموم فيعرَف "بالخلاف التفريقي" الذي يتعدَّى نطاق الرؤية النظرية للكاتب، لتشخص في صورة موقف عملي، يُجبر القارئ على اتباعه تأسيسًا على مفاهيم مغلوطة في توجيه الرأي العام، لتشكِّل في مجموعها خطرًا على وحدة أبناء الوطن الواحد وتهديدًا للسلام الاجتماعي.

ومكمن خطورة الخلاف قيامُه على صناعة الفُرقة وزرع الفتنة بأدوات قذِرة، مثل "الغاية تبرر الوسيلة"، في تجاوز الحقائق، أو بالدعاية الرمادية أو السوداء؛ مما يخرج بنا عما وضعه صاحب مجلة (المنار) المجدد "محمد رشيد رضا: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا عليه"، بل يتجاوز بعض الكتَّاب مما حذَّر منه رب العزة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ (الحجرات: من الآية 12) وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِيْنَ﴾ (الحجرات: من الآية 6)، والحديث النبوي: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث".

إن تبنِّي خطّ العداء دومًا من قِبَل بعض الكتَّاب تجاه رأيٍ معارضٍ للنظام الحاكم أفقدهم مع صحفهم "مصداقيةَ القارئ، بل وزاد من تعاطفه لكل معارض"، ولسان حاله يقول: "كله كلام جرايد"!! فلا يعقل أن يكون مخالفة الحق في الكتابة والتعبير باتباع الأهواء ابتغاءَ مصلحةٍ زائفةٍ على حساب أصحاب الوطن والمصير الواحد.

وبقراءة دقيقة لواقع الصحافة المصرية أرى بعض النقاط المهمة التي يجب النظر فيها ألخصها كالآتي:
الاتفاق جميعًا.."حاكمًا ومحكومًا"، "نظامًا وشعبًا"، "أغلبيةً ومعارضةً"، "كاتبًا وقارئًا" على رسالة عُليا، وهدف كبير، وهو "كيفية البحث عن مصلحة الوطن والمواطن معًا" حتى لا نهلك جميعًا.

تعاون الجميع في كل القضايا ذات الهموم المشتركة لمصلحة الوطن، فيشدُّ بعضهم أزر بعض، مع البعد عن مواطن الخلاف، وما يُدمي القلب هؤلاء الكتَّاب الذين لا يقدِّرون خطورة الخلاف وآثاره السيئة على مستقبل الصحافة والوطن.

أن يُلزم كلُّ كاتب نفسَه بالموازنات بين المصالح والمفاسد بدراسة الواقع علميًّا وفق ما يتيسَّر له من معلومات وإمكانيات، بعيدًا عن التهوين والتهويل.

ضرورة الاتفاق على سياج يحمي القارئ والكاتب معًا مما يشوِّههما ويؤذيهما، سواءٌ بسوء الظن أو اللمز والتنابز، فنُعلي من ميثاق الشرف الصحفي في حق الكاتب، ونؤكد على جملة من الآداب والأخلاق في حق القارئ، ونحفظ حقوق الغير، سواءٌ كانوا حكامًا أو معارضين.. ليبراليين أو إخوانًا مسلمين.. أقباطًا أو مسلمين، فكلهم مصريون لهم حق المواطنة.

أن نرفع شعار "التسامح"، فلا تعصُّبَ لرأيٍ ضد الآخر، ويجب أن نعلم أنه إذا كان التعامل في المتفق عليه واجبًا فالتسامح في المختلف فيه أوجب، والسكوت عن الحديث في أمور لا نعلم لها دليلاً أفضل من التصريحات التي يَثبت خطأُها أو انحرافُها بعد ذلك، فنراعي ظروف الحدث مكانًا وزمانًا، والتماس الأعذار وحسن الظن بالآخر أولى من تصيُّد الأخطاء.

الاتفاق على المفاهيم والمصطلحات التي يقع حولها الخلاف، وبيان مدلولها بدقَّة ووضوح يرفع عنها الغموض والاشتباه؛ حتى يمكن الالتقاء في منطقة القبول، فلا يجوز أن نسمِّيَ فريقًا "بالإرهاب" مثلاً ولا نستطيع تعريفه بعد، كما لا يجوز اتهام بريء لم تثبت إدانته، ولا نحظر العمل وإبداء الرأي والتعبير لفريق وتقبله من فريق آخر.

ضرورة نشر مفهوم "التقارب السياسي" مع بقاء حق الاختلاف المحمود حبًّا للصالح العام؛ إذ كيف للعالَم من حولنا- برغم اختلاف مذاهبه وتباين أديانه- أن يقترب ويتعاون لتحقيق أهدافه العالمية، ولا يفوتنا هنا على سبيل المثال: "الوثيقة الشهيرة التي أصدرها الفاتيكان لتبرئة اليهود من دم المسيح، رغم العداء التاريخي بين اليهودية والمسيحية في نفس الوقت الذي صرَّح به بابا الفاتيكان مؤخرًا بحق الإسلام، بل على المستوى الأيديولوجي تتقارب الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي سابقًا تحت مظلة "التعايش السلمي" لتطور العلاقات لما يسمَّى "سياسة الوفاق"، فما بالك بأصحاب الوطن الواحد؟!

نريد كتَّابا ذوي نفوس مليئة بهموم الوطن والمواطن، ففراغها من الهموم الكبيرة والآمال العظيمة والأحلام الواسعة، يجعلها تعتاد صغائر الأمور وتوافهها، كالمفلس يدَّعي أمورًا لم تحدث أصلاً، وإنه لمن الخيانة لمصر والمصريين أن تغرق صحافتنا في بحر من الجدل والخلاف على حساب قضايانا الرئيسية التي نرزح تحتها، كالفقر والتخلف، بل والقتل المادي بالأمراض الوبائية، والقتل المعنوي بالجهل والأمية.. إننا ما زلنا لا نزرع ما نأكل ولا نصنع ما نستخدمه.

ناهيك عن التحلل القيمي وما أعقبه من ظواهر خطيرة، كانتشار جرائم البلطجة والفساد والاغتصاب والتحرشات الجنسية، وكتَّابنا لاهون، وبكلمات كالحجارة يتقاذفون.. متى يعي كل كاتب أهميةَ تفاعل الدعائم الفكرية والإعلامية بجانب الأخلاقية في إطار تقريب وجهات نظر المختلفين؛ حتى ينصلح حال الصحافة كمهنة وترقَى للصحافة الواعية المسئولة التي تقدِّر المصلحة العامة، ولن يكون ذلك إلا بمراعاة البعد الأخلاقي من خلال النقاط التالة:
التجرد من الأهواء، والذي بدونه تُصاب الصحافة بأخطر الأمراض التي تبيدها؛ إذ تعلو المصالح الشخصية والتطلعات الذاتية، فالفرق كبير بين الخلاف على المبادئ والمفاهيم، والخلاف على المغانم وحب الظهور وجني المناصب والأموال.

التحرر من التعصب الشخصي الذي لا يرى فيه إلا نفسه متوهِّمًا أنه الأذكى عقلاً والأوسع علمًا والأقوى دليلاً مع أنه غير ذلك تمامًا، على الأقل في عين القراء.

إحسان الظن بالآخرين، فلا يجوز أن يقوم سلوكُ واتجاهُ الصحفي على تذكية نفسه واتهام غيره، بل يجب خلع النظارة السوداء عند النظر إلى خلفيات الأحداث أو التعبير عن موقف ما، وهذا يوجب التماس الأعذار، إلا إذا شقَقت عن قلوبهم واطَّلعت على ما فيها.

البعد عن الطعن والتجريح لمخالفك في الرأي أو الفكر، فإشهار سيف العداوة لا ننال منه سوى إهدار الطاقات وضياع الأوقات.

البعد عن الجدال المذموم واللدد في الخصومة والعداء، وكفانا معارك على صفحات الجرائد من أجل توافِهِ الأمور، مع كثرة السبِّ والنَّيل من الأعراض ولا فائدة تذكر.

الحوار بالتي هي أحسن وجمال التعبير في أدب الاختلاف يفيد الوطن وينبِّه المخطئ ويشجِّعه على الاعتراف بخطأه، فلا تنسَ أن الذي في يديك قلمًا يقطر حبرًا وليس سيفًا يقطر دمًا.

إن الأحوج لنا خطاب إعلاميٌّ يغلب عليه الرزانة والهدوء، لا الانفعال والتشنج، تكون كلماته نسائم تنعش، لا رياحًا تدمّر وتقلع، كفانا جرحًا للمشاعر وتغييرًا في المودة.. إن حسن اختيار الألفاظ والعبارات المناسبة يفض اشتباكات ويقوّم اعوجاجًا، ويحل مشكلات، وينبه على الأخطاء، ويبعد عن سؤ التفاهم الذي لا مبرر له.

يا أيها الكتَّاب.. بشِّروا ولا تنفِّروا، جمِّعوا ولا تفرِّقوا، يسِّروا ولا تعسِّروا، يرحمكم الله، اللهم قد بلغت؟ اللهم فاشهد.
---------
* باحث
Us_soliman@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: